التصعيد المستمر بين إيران وإسرائيل: دراسة تحليلية استراتيجية
البرنامج النووي وسباق الردع
يشكّل البرنامج النووي الإيراني محورًا أساسيًا للتصعيد مع إسرائيل، حيث ترى كل منهما في طموحات الأخرى تهديدًا وجوديًا يستدعي الردع. فعلى الرغم من تأكيد إيران على سلمية برنامجها النووي ونفيها السعي لامتلاك سلاح نووي، إلا أنها حققت تقدّمًا كبيرًا في تخصيب اليورانيوم، وصل إلى نسبة 60% وهي كمية تتيح – في حال تخصيبها لدرجة أعلى – إنتاج مواد تكفي لصنع قنبلتين نوويتين
. بالمقابل، تُعتبر إسرائيل – وهي القوة النووية الوحيدة المعروفة في الشرق الأوسط – مصرّة على منع إيران من حيازة سلاح نووي، ولو تطلّب الأمر توجيه ضربة عسكرية استباقية وإسرائيل ذاتها تمتلك ترسانة يُقدّر حجمها بحوالي 90 رأسًا نوويًا (بحسب رابطة الحد من التسلح الأميركية )، ما يمنحها تفوقًا ردعيًا تقليديًا تسعى إيران لموازنته.
هذه المنافسة الاستراتيجية دفعت إسرائيل إلى اتباع إستراتيجية متعددة المسارات لإعاقة البرنامج النووي الإيراني. تشمل هذه الإستراتيجية عمليات سيبرانية سرّية واغتيالات موجّهة، أبرزها الهجوم الإلكتروني بفيروس ستاكسنت (Stuxnet) عام 2010 الذي خرّب أجهزة الطرد المركزي الإيرانية وأخّر برنامج التخصيب لسنوات . كما يُنسب إلى جهاز الموساد الإسرائيلي سلسلة اغتيالات استهدفت علماء نوويين إيرانيين منذ عام 2010 – حيث قُتل ما لا يقل عن ستة علماء وشخصيات أكاديمية مرتبطة بالبرنامج النووي في عمليات غامضة غالبًا ما نُفّذت بواسطة دراجات نارية.
ومن أشهر تلك العمليات اغتيال العالم محسن فخري زاده في نوفمبر 2020، والذي اعتُبر العقل المدبّر للمشروع النووي العسكري الإيراني. وتُشير تقارير استخباراتية إلى أن هذه الاغتيالات وعمليات التخريب – كتفجير موقع نطنز وتسلل عملاء لسرقة الأرشيف النووي الإيراني عام 2018 – لم تكن لتنجح لولا اختراقات عميقة للأمن الإيراني.
في المقابل، تحاول إيران تعزيز قدرتها على الردع للوقوف أمام الضغط الإسرائيلي. فرغم عدم امتلاكها سلاحًا نوويًا، تلمّح أحيانًا إلى إمكان تغيير عقيدتها النووية إن واجهت تهديدًا وجوديًا. وتعتبر طهران أن الترسانة النووية الإسرائيلية غير المعلنة هي الخطر الحقيقي على أمن المنطقة وليست أنشطتها هي، وتستشهد بفتوى المرشد الأعلى علي خامنئي التي تحرّم تصنيع أسلحة الدمار الشامل.
وبالنتيجة، يدور سباق ردع حذر: إيران تمضي في تطوير قدرات نووية مدنية قابلة للتوسّع عسكريًا عند الضرورة، وإسرائيل تلوّح بالخيار العسكري “إن فشلت الدبلوماسية”، وتنفّذ بالفعل عمليات كبح خفية لتأخير لحظة امتلاك إيران لقدرات نووية عسكرية. هذا السباق يرفع مستوى التوتر الإقليمي إلى ذروات خطرة، خاصة في غياب اتفاق دولي فعّال يكبح جماح برنامج إيران مقابل توفير ضمانات أمنية لجميع الأطراف.
الحروب بالوكالة
اتخذ الصراع الإيراني-الإسرائيلي طابع الحروب بالوكالة في ساحات إقليمية متعددة، حيث تسعى كلتا الدولتين إلى تقويض نفوذ الأخرى عبر دعم أطراف محلية بديلة.
وتبرز هنا المجموعات الحليفة لإيران في مقدمة المسرح؛ إذ تدعم طهران حزب الله اللبناني ماليًا وعسكريًا منذ عقود، مما جعله قوة مسلحة كبيرة تمتلك ترسانة صاروخية ضخمة موجهة نحو إسرائيل. كما ترعى إيران فصائل عراقية مسلّحة ضمن الحشد الشعبي، استخدمتها سابقًا ضد القوات الأميركية وتنظر لها كعمق إستراتيجي لمصالحها في العراق وسوريا.
في المقابل، تعتبر إسرائيل وجود هذه الأذرع العسكرية الموالية لإيران على حدودها تهديدًا مباشرًا. لذا اعتمدت إستراتيجية “المعركة بين الحروب” لاستهداف البنية التحتية والتواجد الإيراني غير المباشر في سوريا ومحيطها.
فمنذ اندلاع الحرب السورية، نفّذت إسرائيل مئات الغارات الجوية على أهداف مرتبطة بإيران هناك، تراوحت بين شحنات أسلحة متطورة موجهة إلى حزب الله وقواعد لوجستية تتبع فيلق القدس التابع للحرس الثوري. حتى أنها كسرت صمتها في عام 2021 بالاعتراف بأنها شنّت حوالي 1000 ضربة جوية في سوريا خلال 8 سنوات لمنع تعزيز الترسانة الصاروخية لحزب الله عبر تطوير دقة الصواريخ وقذائفه. وأسفرت هذه الحملة عن إبطاء مشروع الصواريخ الدقيقة ومنع إقامة قواعد إيرانية ثابتة على الأراضي السورية.
واتسع نطاق هذه الحرب الخفية ليشمل ساحات أخرى. ففي العراق، تعرضت مخازن أسلحة ومواضع تابعة للحشد الشعبي لضربات جوية غامضة خلال الأعوام الماضية. ورغم التكتّم الإسرائيلي، اتهمت الحكومة العراقية صراحةً إسرائيل بالوقوف وراء هجمات بطائرات مسيّرة استهدفت مواقع للحشد عام 2019 . وشعر بعض قادة العراق أن هذه الاعتداءات بمثابة إعلان حرب على سيادة البلاد. ومع أن إسرائيل نادرًا ما تؤكد عملياتٍ كهذه، فإن مسؤولين إسرائيليين ألمحوا آنذاك إلى أن يد إسرائيل قد تمتد إلى أي مكان يتطلب منع التموضع الإيراني.
في الجانب الآخر من الصورة، تستمر إيران بدعم حلفائها الإقليميين سياسياً وعسكرياً كوسيلة لاحتواء النفوذ الإسرائيلي والأميركي. فحزب الله يُوصف بأنه “ذراع إيران الإقليمية” وجزء أساسي من سياستها الخارجية، وقد صرّح قادته مرارًا أن أي مواجهة واسعة مع إسرائيل ستشهد تدفق آلاف المقاتلين من دول عدة – مثل العراق واليمن – لنصرة الحزب بدعم إيراني.
كذلك تحتفظ إيران بنفوذ قوي داخل مؤسسات الدولة العراقية عبر فصائل الحشد، مما يجعل انضمام بغداد إلى أي تحالف أمني معادٍ لإيران أمرًا بالغ الصعوبة. وهكذا، تستخدم إيران هذه الشبكة من الوكلاء لتثبيت توازن ردع غير مباشر مع إسرائيل، بحيث تدرك الأخيرة أن أي ضربة مباشرة لإيران قد تشعل جبهات متعددة ضدها في آن واحد.
الحرب الإلكترونية
أصبح الفضاء الإلكتروني ساحة مواجهة نشطة بين إيران وإسرائيل، حيث سعى كل طرف لإلحاق الضرر بمنشآت حيوية للآخر دون الاضطرار للمواجهة العسكرية المباشرة. وقد شهد العقد الأخير عمليات اختراق وهجمات سيبرانية متبادلة أدت أحيانًا لتعطيل بنى تحتية حساسة.
فعلى الجانب الإسرائيلي، وجّهت أجهزة الاستخبارات سلسلة ضربات سيبرانية نوعية إلى المنشآت الإيرانية، أشهرها الهجوم الذي تسبب في انقطاع التيار الكهربائي عن منشأة تخصيب نطنز النووية في أبريل 2021. هذا الهجوم – الذي لم تعلن إسرائيل رسميًا مسؤوليتها عنه – وصفته طهران بأنه عمل تخريبي إرهابي. وقبله بنحو عقد، استخدم فيروس كومبيوتر معقّد يدعى ستاكسنت لضرب برنامج إيران النووي، مما أدى إلى إخراج عدد كبير من أجهزة الطرد المركزي عن الخدمة وتأخير المشروع سنوات عدة.
على الجهة المقابلة، طوّرت إيران قدرات هجومية إلكترونية واستهدفت مؤسسات وبنى تحتية في إسرائيل. فقد كشف مسؤولون إسرائيليون أن إيران حاولت اختراق أنظمة توزيع المياه الإسرائيلية عام 2020 بهدف رفع مستويات الكلور والتسبب بأضرار صحية. وردًا على ذلك، يعتقد أن إسرائيل شنّت هجومًا إلكترونيًا أدى إلى شلل في ميناء الشهيد رجائي الإيراني بمضيق هرمز، مسبّبًا ازدحامًا وفوضى في حركة الشاحنات والسفن استمرت لأيام. ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن مصادر أمنية أن هذا الهجوم الإسرائيلي جاء “ردًا على محاولة اختراق إيرانية سابقة لأنظمة المياه في إسرائيل”.
واستمر هذا الأخذ والرد في الفضاء السيبراني بوتيرة متصاعدة. ففي أواخر عام 2023، تعرضت شبكة محطات الوقود في إيران لهجوم سيبراني واسع تسبب في تعطيل 70% منها مؤقتًا. وأعلنت مجموعة قرصنة تُتهم بارتباطها بإسرائيل مسؤوليتها عن الهجوم، معتبرةً أنه جاء “ردًا على عدوان النظام الإيراني ووكلائه في المنطقة”. بالمقابل، اخترق قراصنة إيرانيون أنظمة شركات ومؤسسات إسرائيلية غير مرة، وقاموا بتسريب بيانات أو تعطيل مواقع حكومية، في إطار ما وُصف بأنه “حرب ظلال رقمية” بين الجانبين.
تكشف هذه المواجهات الإلكترونية عن سعي كل طرف لضرب نقاط ضعف الآخر الاقتصادية والتقنية دون الانجرار لحرب معلنة. لكنها في الوقت نفسه تحمل مخاطر كبيرة للتصعيد غير المحسوب؛ فاستهداف منشآت حيوية كشبكات الكهرباء أو الموانئ أو مرافق المياه قد يؤدي إلى أضرار بالغة للسكان المدنيين، مما قد يدفع الطرف المتضرر للرد بطرق تقليدية أشد عنفًا. وعليه، تبقى الحرب السيبرانية سلاحًا ذا حدين – فعال في توجيه رسائل ردع وإرباك للخصم، لكنه يهدد بتوسيع نطاق الصراع خارج السيطرة إذا ما أصاب أهدافًا حساسة بطريقة غير محسوبة.
الاغتيالات والعمليات السرية
شكّلت الاغتيالات والعمليات الاستخباراتية السرية أداة محورية في إدارة الصراع بين إيران وإسرائيل، حيث سعى كل طرف لتصفية شخصيات محورية في الطرف الآخر أو جمع معلومات حساسة، من أجل تحقيق أهدافه دون الدخول في حرب شاملة. ويبدو هذا الأسلوب جليًا في سياسة إسرائيل لإحباط برنامج إيران النووي من خلال استهداف العلماء والقادة العسكريين المؤثرين.
فمنذ عام 2010، تعرّض خمسة على الأقل من كبار العلماء النوويين الإيرانيين للاغتيال في عمليات غامضة اتُّهم الموساد بتدبيرها. واتُبع في عدة حالات أسلوب هجمات دراجات نارية تستهدف سيارات العلماء في طهران، كما حدث مع العالم مصطفى أحمدي روشان والعالم مجيد شهرياري وغيرهما.
بلغت هذه الحملة ذروتها باغتيال محسن فخري زاده قرب طهران أواخر عام 2020، في عملية معقدة استخدمت فيها – بحسب الرواية الإيرانية – رشاشات آلية متحكم بها عن بعد. اعتبرت إسرائيل فخري زاده لعقدين العقل الرئيسي وراء مشروع الأسلحة النووية الإيراني، ورغم أن تل أبيب امتنعت عن التعليق رسميًا، إلا أنها لم تُخفِ سابقًا سعيها الحثيث عبر “عمليات غير تقليدية” لكبح برنامج إيران النووي.
ولم تقتصر تلك العمليات على الاغتيال، بل شملت أيضًا تفجيرات غامضة في منشآت نووية وعسكرية داخل إيران ونشاط استخباراتي مكثّف أدى – على سبيل المثال – إلى الاستيلاء على أرشيف نووي إيراني سرّي وتهريبه إلى إسرائيل عام 2018، وفق رواية بنيامين نتنياهو الشهيرة.
في المقابل، اتهمت إيران إسرائيل والولايات المتحدة بتنفيذ حملة إرهاب ضد علمائها ومنشآتها، وتوعدت بالانتقام. كما باشرت طهران تنفيذ عمليات سرية مضادة وإن كانت أقل صخبًا وتأثيرًا. فالاستخبارات الإيرانية حاولت هي الأخرى استهداف شخصيات إسرائيلية أو يهودية في الخارج كنوع من الرد. على سبيل المثال، أحبطت تركيا في يونيو 2022 مخططًا لاغتيال سياح ورجال أعمال إسرائيليين في إسطنبول، واعتقلت خلية من 5 إيرانيين بحوزتهم أسلحة كاتمة للصوت.
جاء إحباط هذه المحاولة بجهد أمني تركي-إسرائيلي مشترك، حتى أن وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك يائير لابيد شكر أنقرة علنًا على تعاونها وصرّح بأن إسرائيل “لن تقف مكتوفة اليدين” تجاه محاولات إيران استهداف مواطنيها. كذلك كشفت أجهزة الأمن القبرصية واليونانية في السنوات الأخيرة عن مخططات لعملاء إيرانيين استهداف دبلوماسيين أو رجال أعمال إسرائيليين على أراضيها، ما يشير إلى نطاق حرب الظلال المتبادلة.
إلى جانب الاغتيالات، نفّذ الطرفان عمليات سرية عالية المخاطر. ففي مايو 2022، اغتيل الضابط في فيلق القدس العقيد صياد خدائي بإطلاق نار أمام منزله في طهران، واتهمت السلطات الإيرانية عناصر تابعة للموساد بالوقوف وراء العملية. وأعلنت طهران لاحقًا كشف شبكة تجسس إسرائيلية واعتقال أفرادها الذين يعتقد بتورطهم في تسهيل اغتيال خدائي. وعلى الجانب الآخر، تتهم إسرائيل فيلق القدس بتدبير هجمات ضد إسرائيليين في الخارج وتسليح فصائل معادية لها، وتعتبر استهداف كوادره في سوريا أو حتى داخل إيران جزءًا من معركتها الوقائية.
لقد أفضت هذه العمليات السرية إلى إضعاف بعض القدرات وإرباك الحسابات، لكنها في الوقت عينه كرّست دائرة انتقام وثأر لا تنتهي. فكل اغتيال يدفع الطرف المستهدف لمحاولة رد بالمثل، ما يزيد احتمالات الخطأ والتصعيد. كما أن نجاح إسرائيل في اختراق العمق الأمني الإيراني بهذا الشكل – باعتراف محللين غربيين – مثّل ضربة معنوية لطهران، ودفعها لتشديد قبضتها الأمنية حد تنفيذ إعدامات بحق مشتبهين بالتجسس لصالح إسرائيل. وبشكل عام، تبقى سياسة الاغتيالات سيفًا ذا حدين: قد تحقق أهدافًا تكتيكية بكلفة منخفضة، لكنها تزيد من حدة العداء وتفتح الباب أمام مواجهات أوسع إذا ما أخطأ أحد الطرفين تقدير “خطوط العدو الحمراء”.
شبكات التجسس
يمتد الصراع الإيراني-الإسرائيلي ليشمل حربًا استخباراتية مستمرة تسعى عبرها كل دولة إلى اختراق الدوائر الحساسة لدى الخصم وجمع المعلومات والتأثير في صناعة قراره. وقد برزت خلال السنوات الأخيرة عدة حوادث تشير إلى حجم النشاط التجسسي المتبادل بين الجانبين. فعلى الساحة الإسرائيلية الداخلية، أعلن جهاز الأمن العام “الشاباك” مرارًا تفكيك شبكات تجسس مرتبطة بإيران. ففي أواخر عام 2024 مثلًا، كُشف عن اعتقال سبعة إسرائيليين في القدس الشرقية – وجميعهم من العرب المحليين – بتهمة التجسس لصالح الاستخبارات الإيرانية. سبق ذلك اعتقال سبعة آخرين في مدينة حيفا للسبب نفسه، وسط تقديرات بوجود خلايا نائمة أخرى.
إحدى تلك القضايا شملت رجل أعمال إسرائيلي عمره 73 عامًا اتُّهم بالتواصل مع عملاء إيرانيين وعرض اغتيال شخصيات سياسية (بينها رئيس الوزراء نتنياهو) مقابل مبالغ مالية. هذه المؤامرات الداخلية دقّت ناقوس الخطر في إسرائيل التي طالما اعتبرت مجتمعها “حصينًا” ضد الاختراق الخارجي، لكنها باتت تواجه محاولات إيرانية حثيثة لاستغلال أي ثغرة مجتمعية أو تقنية للتجسس والتأثير.
على الجانب الآخر، تعرضت إيران لاختراقات عميقة من قبل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، انعكست في سلسلة عمليات نوعية داخل الأراضي الإيرانية. لقد تمكن الموساد – بالتعاون أحيانًا مع استخبارات غربية – من تجنيد عملاء داخل إيران لتنفيذ مهمات خطيرة شملت سرقة وثائق بالغة الحساسية (كما حدث في عملية الأرشيف النووي) وتنفيذ تفجيرات واغتيالات دقيقة. وفي ديسمبر 2022، أعلنت طهران إعدام أربعة أشخاص (ثلاثة رجال وامرأة) بعد إدانتهم بالتجسس لصالح إسرائيل والضلوع في عمليات تخريب واختطاف مسؤولين.
كما كشفت عن اعتقال خلايا أخرى خططت لاعتداءات داخل إيران بالتنسيق مع الموساد. هذه التطورات تظهر أن الاختراق الإسرائيلي وصل إلى مستوى “الاشتباك الأمني الميداني” داخل إيران نفسها، الأمر الذي اعتُبر مؤشرًا خطيرًا على مدى تغلغل الموساد في “أكثر القطاعات حساسية” هناك.
في ظل هذا الصراع الاستخباراتي، استعان الطرفان أيضًا بأحدث التقنيات التجسسية لتعزيز قدراتهما. فوسائل المراقبة الإلكترونية واعتراض الاتصالات والتنصت الرقمي تُستخدم على نطاق واسع لرصد تحركات العدو. لكن برغم ذلك، يبقى العنصر البشري (Humint) أساسيًا في عمليات التجسس.
وكما يعلق خبراء أمنيون: “لا تزال الاستخبارات البشرية عنصرًا بالغ الأهمية في الحرب السرية الدائرة بين إسرائيل وإيران… فكلا البلدين منخرطان بقوة في جمع المعلومات عبر عمليات تجسس وتجسّس مضاد توجه حساباتهما الإستراتيجية الأوسع”. وبالفعل، استفاد الموساد من شبكات العملاء على الأرض الإيرانية لتنفيذ عملياته الجريئة، فيما تحاول إيران بناء شبكات مشابهة داخل إسرائيل مستفيدة من توسع حضورها الإقليمي. غير أن نجاح أو فشل هذه الجهود يبقى مرهونًا بمدى يقظة الأجهزة الأمنية وقدرتها على كشف الاختراقات في الوقت المناسب.
خلاصة القول، تدور بين إيران وإسرائيل معركة عقول وظلال موازية للمعركة العسكرية المباشرة. ورغم أنها غير مرئية للجمهور عادة، إلا أن نتائجها تؤثر بعمق في مسار الصراع. فكثيرًا ما ساهمت معلومة استخباراتية حاسمة في إحباط هجوم أو تسهيل عملية نوعية. ولهذا يستمر كل طرف في استثمار موارد ضخمة لتعزيز تفوّقه الاستخباراتي، إدراكًا منه أن أي تفوق في هذه الساحة قد يحسم المواجهة الأوسع لصالحه دون إطلاق رصاصة واحدة.
القدرات الصاروخية
تمثّل القدرات الصاروخية عنصرًا جوهريًا في ميزان الردع بين إيران وإسرائيل، حيث تعتمد إيران على ترسانتها الكبيرة من الصواريخ الباليستية لتعويض قصور سلاحها الجوي أمام التفوق الإسرائيلي، فيما تطوّر إسرائيل أنظمة دفاعية متعددة الطبقات لتحييد هذا الخطر الصاروخي. تمتلك إيران ما لا يقل عن 12 نوعًا مختلفًا من الصواريخ الباليستية قصيرة ومتوسطة المدى. يتراوح مداها من صواريخ “تندر-69” (150 كيلومترًا) إلى صواريخ “خرمشهر” و*“سجيل”* القادرة على بلوغ مدى 2000 كيلومتر – أي ما يضع كامل الأراضي الإسرائيلية ضمن نطاقها. وقد عملت طهران خلال السنوات الأخيرة على زيادة دقة هذه الصواريخ وتصغير نسبة الخطأ، كما طوّرت صواريخ كروز وطائرات مسيّرة هجومية يمكنها ضرب أهداف نوعية في عمق إسرائيل (وإن بدرجة ضرر محدودة مقارنة بالصواريخ الباليستية).
في المقابل، استثمرت إسرائيل بكثافة في إنشاء شبكة دفاع جوي صاروخي متعددة الطبقات لمواجهة تهديد الصواريخ والقذائف من جميع المديات. تشمل هذه الشبكة منظومة “القبة الحديدية” لاعتراض القذائف القصيرة المدى والصواريخ التكتيكية، والتي أثبتت فعاليتها بنسبة عالية في إسقاط الصواريخ غير الموجهة التي تطلقها الفصائل من غزة ولبنان. كما نشرت إسرائيل منظومة “مقلاع داود” (أو العصا السحرية) لاعتراض الصواريخ متوسطة المدى (بين 40 و300 كلم)، ومنظومة “سهم-2 وسهم-3” لاعتراض الصواريخ الباليستية بعيدة المدى خارج الغلاف الجوي.
وتعمل هذه الأنظمة بتناغم عبر رادارات متطورة ترصد إطلاق الصاروخ منذ لحظاته الأولى وتحدد مساره لتقرر أي تهديد يستوجب اعتراضه. وقد نجحت منظومات الدفاع الصاروخي الإسرائيلية في التصدي لعشرات الصواريخ التي أطلقت عبر سوريا أو من اليمن في بعض الأحيان خلال التوترات الإقليمية، حيث يجري إسقاط معظمها قبل بلوغ أهدافها.
رغم ذلك، يظل “سباق الصواريخ والدروع” بين الطرفين مستمرًا دون حسم نهائي. فإيران تطمح إلى تطوير صواريخ أكثر دقة وقدرة على المناورة للإفلات من الدفاعات الإسرائيلية، وقد زوّدت حلفاءها (كحزب الله) ببعض منها. وتقدّر الاستخبارات الإسرائيلية أن حزب الله تمكن من الحصول على عدد من الصواريخ الدقيقة بمدى متوسط، ما دفع إسرائيل إلى تنفيذ ضربات استباقية لإحباط مشاريع تطوير تلك الصواريخ في سوريا. بالمقابل، تسعى إسرائيل لتعزيز قدرات دفاعها الجوي ضد خطر الإغراق الصاروخي، عبر زيادة عدد بطاريات القبة الحديدية وتطوير صواريخ اعتراض أكثر كفاءة، بل وتخطط لإدخال أنظمة ليزر اعتراضية مستقبلًا لتقليل كلفة التصدي للوابل الكثيف من الصواريخ قصيرة المدى.
وهكذا، توازن إسرائيل وإيران بعضهما في ميدان الصواريخ: إيران تمتلك قدرة هجومية كبيرة تستطيع إغراق الدفاعات ببعض الأحيان، وإسرائيل تمتلك قدرة دفاعية متقدمة تقلّل بشكل معتبر من فعالية الضربة الصاروخية الإيرانية. هذا التوازن الردعي الدقيق يجعل أي مواجهة مباشرة بينهما محفوفة بالمخاطر لكلا الجانبين؛ فإسرائيل وإن كانت محمية جزئيًا بدفاعاتها، إلا أن صواريخ قليلة قد تفلت لتصيب مراكز حيوية أو مدنية مسببة خسائر جسيمة. وبالمقابل تدرك إيران أن إطلاق صواريخها على إسرائيل سيستدعي ردًا إسرائيليًا ساحقًا – تقليديًا أو حتى نوويًا – خاصة وأن لإسرائيل ترسانة صواريخ بعيدة المدى (من نوع “يريحو-3” بمدى يصل إلى 6500 كم) قادرة على الوصول إلى كل الأراضي الإيرانية. من ثمَّ فإن معادلة الصواريخ الحالية تكرّس الردع المتبادل وتفرض التفكير مليًا قبل الإقدام على أي مغامرة عسكرية شاملة.
العقوبات والضغوط
إلى جانب المواجهة العسكرية والأمنية، تشكّل العقوبات الاقتصادية والضغوط الدبلوماسية إحدى جبهات الصراع المركزيّة بين إيران وإسرائيل. فمنذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018 وإعادة فرضها عقوبات شاملة على طهران، يرزح الاقتصاد الإيراني تحت ضغط خانق أدى إلى شلّل نسبي في قدرته على التمويل والتطوير. وقد دعمت إسرائيل بقوة نهج “الضغط الأقصى” هذا، معتبرةً أنه السبيل الأفضل لكبح نشاطات إيران الإقليمية والنووية دون حرب. بل إن القيادة الإسرائيلية وصفت الاتفاق النووي لعام 2015 – الذي خفف العقوبات مؤقتًا – بأنه “خطأ تاريخي” لأنه لم يفكك البنية التحتية للبرنامج الإيراني، وضغطت على واشنطن للانسحاب منه وإعادة عزل إيران اقتصاديًا.
منذ ذلك الحين، عملت إسرائيل في المحافل الدولية على تأمين دعم القوى الكبرى لاستمرار عزل إيران. واستطاعت بالتنسيق مع الولايات المتحدة ودول أوروبية استصدار قرارات وتشديد عقوبات في مجالات متعددة، منها برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني ودعم طهران لجماعات مسلحة إقليمية. كما مارست ضغوطًا دبلوماسية لمنع رفع العقوبات الأممية عن إيران وفق مواعيدها المنصوص عليها في الاتفاق النووي، ملوّحةً بإمكانية اللجوء إلى آلية “سناباك” لإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة إن لم يتم التوصل إلى “اتفاق أفضل” يكبح أنشطة إيران. وعلى الجانب الآخر، سعت إيران جاهدة لكسر عزلتها الاقتصادية عبر تعزيز الشراكات مع دول غير غربية كالصين وروسيا (وهو ما سيأتي تفصيله في قسم التحالفات)، وكذلك عبر تطوير آليات للتبادل التجاري بالعملات المحلية للالتفاف على هيمنة الدولار والنظام المالي الأميركي. ومع ذلك، لا تزال آثار العقوبات واضحة بشدة في تراجع العملة الإيرانية وارتفاع التضخم وانخفاض عائدات النفط، مما يؤثر سلبًا على تمويل إيران لنشاطاتها الإقليمية وبرامجها التسليحية.
إسرائيل من جانبها تلقى دعمًا غربيًا واسعًا في هذا المضمار، إذ ترى كل من واشنطن وعواصم أوروبية عديدة أن استمرار الضغوط الاقتصادية على إيران أداة ضرورية لتغيير سلوكها. وقد صرّح مسؤولون أميركيون وإسرائيليون مرارًا بأنهم “عازمون على إحباط طموحات إيران النووية ونفوذها الإقليمي”. وتنسّق الولايات المتحدة وإسرائيل سياساتهما حيال إيران عن كثب، بما في ذلك تبادل معلومات استخبارية حول محاولات طهران للالتفاف على العقوبات. كما تستفيد إسرائيل دبلوماسيًا من أي تصعيد إيراني (كزيادة نسب التخصيب أو مضايقة المفتشين الدوليين) لحشد تأييد دولي نحو إجراءات أكثر صرامة ضد إيران بدل مكافأتها بتخفيف العقوبات.
في المحصلة، نجحت العقوبات في إضعاف الاقتصاد الإيراني إلى حد كبير، لكنها لم تدفع طهران بعد إلى تقديم تنازلات جوهرية في الملفات محل الخلاف. فلا تزال إيران تصرّ على حقها في تخصيب اليورانيوم وترفض ربط أنشطتها الإقليمية بالمفاوضات النووية. بل إنها استغلت الضغوط لحشد التعاطف الداخلي ضد ما تسميه “حربًا اقتصادية ظالمة”. وهكذا يبقى ملف العقوبات ورقة شد وجذب: تعتبره إسرائيل أداة مهمة لتقليص قدرة إيران على تهديدها (عبر حرمانها من الموارد) وضمان بقائها منشغلة بأزماتها الداخلية، فيما تراه إيران سلاحًا غير أخلاقي يُستخدم لتركيع شعبها وتجويعه، متوعدةً بأن صموده سيفشل رهانات الأعداء.
التحالفات
يعتمد كل من الطرفين على شبكة تحالفات إقليمية ودولية تعزّز موقفه في الصراع وتزيد من عوامل الردع تجاه الآخر. فعلى الجانب الإسرائيلي، تُعد الولايات المتحدة الحليف الأبرز والداعم الإستراتيجي الأول لإسرائيل عسكريًا وسياسيًا. وتضمن الشراكة الوثيقة بين واشنطن وتل أبيب تفوقًا نوعيًا مستمرًا لإسرائيل في مواجهة أعدائها الإقليميين، وعلى رأسهم إيران. وقد ظهر ذلك في التنسيق العالي بين البلدين حول الملف الإيراني، سواء عبر المشاورات السياسية أو المناورات العسكرية المشتركة التي تحاكي ضرب منشآت إيرانية، أو عبر الدعم الأميركي لمنظومات الدفاع الصاروخي الإسرائيلية وتمويل تطويرها. وكثيرًا ما يؤكد المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون التزامهم المشترك بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي وكبح نفوذها المزعزع للاستقرار. إلى جانب ذلك، نسجت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة علاقات أوثق مع دول عربية خليجية تشاطرها القلق من تنامي النفوذ الإيراني. فالاتفاقات الإبراهيمية التي وُقعت عام 2020 أقامت تطبيعًا للعلاقات بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين (ولاحقًا السودان والمغرب)، وكان مما شجّع عليها هو التقاء مصالح هذه الدول مع إسرائيل في مواجهة التهديد الإيراني.
وقد عرضت إسرائيل صراحةً التعاون الأمني والدفاعي على دول الخليج الحليفة للولايات المتحدة والتي “تشاركها مخاوفها حيال إيران”. وفعّل الجانبان بالفعل قنوات تنسيق غير علنية شملت مزامنة أنظمة الرادار بين إسرائيل وبعض دول الخليج لرصد أي هجمات إيرانية محتملة. وتسعى واشنطن بدورها إلى دفع هذا التعاون قدمًا بغية دمج الدفاعات الإقليمية في منظومة موحدة تعزل إيران، وإن كان ذلك يواجه تحفّظات من دول عربية معينة توازن علاقاتها بين المحاور.
على الجانب الإيراني، وجدت طهران سندًا في تحالفات أقرب إلى شراكات إستراتيجية مع قوى عالمية وازنة كروسيا والصين. فقد تعمّقت العلاقات بين إيران وروسيا في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق، خاصة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية 2022 وما تلاها من مواجهة روسية غربية. ووُقّع في مطلع 2025 اتفاق شراكة إستراتيجية لمدة 20 عامًا بين موسكو وطهران تضمن تعزيز التعاون الدفاعي بينهما. ورغم عدم وجود معاهدة دفاع مشترك رسمية، إلا أن البلدين اتفقا على العمل معًا ضد التهديدات العسكرية وتعزيز التعاون التقني العسكري وإجراء مناورات مشتركة.
وقد ظهر هذا التقارب جليًا في استعانة روسيا بالطائرات المُسيّرة والصواريخ الإيرانية خلال حربها في أوكرانيا – الأمر الذي تنفيه طهران – مقابل حصول إيران على عائدات مالية وتقنية وكذلك على منظومات روسية متطورة (مثل أقمار اصطناعية لأغراض التجسس). وتحت مظلة هذا التحالف، يجابه الطرفان معًا العقوبات الغربية المفروضة عليهما عبر تعزيز التبادل التجاري المباشر وتوقيع اتفاقيات للتكامل الاقتصادي، من ذلك دخول اتفاقية تجارة حرّة بين إيران والاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا حيز التنفيذ لتخفيف التعرفات الجمركية بينهما.
أما العلاقة مع الصين، فهي ترتكز أساسًا على تعاون اقتصادي ودبلوماسي طويل الأمد. فالصين تُعد أكبر مستورد للنفط الإيراني، وقد وقّعت مع طهران في 2021 اتفاق تعاون شامل لمدة 25 عامًا بهدف توثيق الشراكة الاقتصادية والسياسية. وتنظر بكين لطهران بصفتها شريكًا إستراتيجيًا ضمن مبادرتها الطموحة “الحزام والطريق”، إذ أدخل الاتفاق إيران رسميًا في تلك المبادرة بما يفتح الباب لاستثمارات صينية كبيرة في البنية التحتية والطاقة الإيرانية.
كما دأبت الصين على معارضة العقوبات الأميركية على إيران وتوفير متنفس لها عبر استمرار التبادل التجاري، بل وصفتها طهران بأنها “صديق أوقات الشدة” في تلميح لمساندتها في ظل الحصار. وإلى جانب روسيا والصين، عززت إيران أيضًا علاقاتها مع دول مثل فنزويلا وكوريا الشمالية ضمن محور من الدول المناهضة للهيمنة الغربية. هذه الشبكة من الشراكات توفر لطهران عمقًا سياسيًا واقتصاديًا يعينها على الصمود، كما تمنحها غطاء في مجلس الأمن عبر استخدام موسكو وبكين حق النقض ضد أي قرارات تضرب مصالحها.
في المحصلة، نحن أمام معسكرين متقابلين إلى حد ما في المشهد الإقليمي: معسكر تقوده الولايات المتحدة وتشكّل إسرائيل نواته الإقليمية مدعومة بتحالفات عربية جديدة هدفها المعلن احتواء إيران، ومعسكر مضاد تتزعمه روسيا والصين تقف إيران في قلبه لتحدي النفوذ الأميركي. هذا الاستقطاب يزيد من تعقيد الصراع الإيراني-الإسرائيلي، إذ يوسع نطاقه ليصبح جزءًا من منافسة دولية أوسع بين القوى الكبرى. وبقدر ما يوفر ذلك مظلة ردع – حيث يتردد كل طرف في استفزاز طرف مرتبط بقوى عظمى – فإنه أيضًا يرفع المخاطر في حال اندلاع مواجهة، لأنها قد تستدرج لاعبين دوليين وتقود إلى زعزعة أوسع لأمن المنطقة والعالم.
الاتصالات غير المباشرة
على الرغم من العداء العلني والتهديدات المتبادلة، أدركت كل من إيران وإسرائيل – ضمنًا أو صراحةً – أهمية وجود قنوات اتصال غير مباشرة لتفادي الانزلاق نحو حرب شاملة غير مرغوبة. وعليه نشطت دبلوماسية الكواليس عبر وسطاء إقليميين ودوليين سعوا لتمرير رسائل وتهدئة التوتر عندما يرتفع منسوبه. تعدُّ سلطنة عُمان من أبرز هذه القنوات الخلفية، حيث لعبت تاريخيًا دور الوسيط الأمين بين واشنطن وطهران. وقد استمر هذا الدور في السنوات الأخيرة مع تعثر المفاوضات النووية الرسمية؛ إذ تستضيف مسقط جولات محادثات سرية بين مبعوثين إيرانيين وأميركيين أو تنقل مقترحات تفاوضية بين الطرفين.
وصرّح مسؤول إيراني رفيع بأن بلاده ترغب في “مواصلة المفاوضات غير المباشرة عبر عمان” – التي وصفها بأنها قناة رسائل طويلة الأمد بين طهران وواشنطن – لاختبار جدية الولايات المتحدة في الوصول لحل سياسي. وبالفعل، في مايو 2025 طرح الجانب العُماني حزمة أفكار وسطية لتقريب وجهات النظر النووية، قوبلت بتفاؤل حذر من طهران التي تحدّثت عن “إمكان تحقيق تقدم” في ضوء تلك المقترحات.
كذلك انخرطت تركيا ودول أوروبية في جهود وساطة مكوكية للحيلولة دون تصعيد الصراع. فتركيا، التي تربطها علاقات جيدة نسبيًا مع كل من إيران وإسرائيل، عرضت مرارًا التوسط في ملفات إقليمية شائكة. وفي مطلع 2025، استضافت أنقرة لقاءات بين مسؤولين إيرانيين وثلاثي أوروبا (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) لبحث إحياء الاتفاق النووي، رغم التحفظات الأولية خشية أن تشكل تلك المباحثات مسارًا موازيًا للمسار الأميركي. لكن تم الاتفاق على المُضي فيها لإبقاء قنوات الحوار مفتوحة وتبادل الآراء حول حدود أي اتفاق مستقبلي.
ولم تكن هذه اللقاءات بعيدة عن تنسيق غير مباشر مع واشنطن، إذ حرص الأوروبيون على التشاور مع الجانب الأميركي لضمان عدم تضارب المسارات. بجانب ذلك، لعبت دول أوروبية أدوارًا خلفية في تهدئة أجواء التوتر الإسرائيلي-الإيراني، فعلى سبيل المثال تدخلت فرنسا وألمانيا لدى طهران في فترات سابقة لإطلاق سراح معتقلين مزدوجي الجنسية أو لكبح اندفاع إيران للانتقام بعد عمليات إسرائيلية، كما انخرطت سويسرا (راعية المصالح الأميركية في إيران) في نقل رسائل عاجلة بين طهران وتل أبيب عبر واشنطن عندما احتدمت الأزمات – مثلما حدث إبان اغتيال قاسم سليماني مطلع 2020، حيث نُقلت رسائل تفادي التصعيد عبر القناة السويسرية.
كما برزت خلال حرب غزة 2023-2024 قنوات اتصال غير معلنة نسبيًا بين إيران وإسرائيل بوساطة أطراف إقليمية لتجنب توسع الحرب. فقد نقلت قطر على سبيل المثال تطمينات من إيران بأنها لن تتدخل مباشرة طالما لم تُستهدف قواتها أو مصالحها، في مقابل تحذيرات إسرائيلية عبر واشنطن بأن أي هجوم إيراني مباشر سيواجه برد أميركي حاسم. هذه الرسائل المتبادلة ساهمت – إلى جانب عوامل أخرى – في إبقاء النزاع محدودًا ضمن نطاق غزة وجنوب لبنان رغم التوتر الإقليمي الشديد.
باختصار، يدور خلف الستار حوار غير مباشر حذر بين إيران وإسرائيل، عبر وسطاء مثل عمان وتركيا وقطر وأطراف أوروبية، يهدف إلى ضبط الإيقاع ومنع الانفلات نحو مواجهة شاملة. ورغم انعدام الثقة بين الطرفين، إلا أن كلاهما يدرك فداحة البديل المتمثل في حرب مفتوحة، ما يجعل حتى العدوين اللدودين أكثر قابلية للإصغاء للنصح عندما يبلغ السيل الزبى. ويمكن القول إن نجاح تلك القنوات الهادئة في نزع فتيل أزمات ماضية يجعل منها أداة ضرورية ينبغي تعزيزها مستقبلاً، سواء عبر توسيع دور الوسطاء الإقليميين أو إنشاء خطوط اتصال طارئة (Hotline) بشكل غير مباشر تحت مظلة أممية، لضمان التواصل السريع في لحظات الأزمة الحادة.
خاتمة تحليلية
في ضوء ما تقدم، يتضح أن المشهد الراهن للصراع الإيراني-الإسرائيلي معقد ومتشابك، حيث يتواجه الطرفان على ساحات متعددة: نووية وعسكرية وسيبرانية واستخباراتية واقتصادية. نجحت كل من طهران وتل أبيب حتى الآن في تجنّب صدام مباشر واسع، بفضل استراتيجية الردع المتبادل التي جعلت كلفة الحرب الشاملة عالية للغاية على كليهما. فإسرائيل تتمتع بتفوق عسكري تقليدي ونووي، لكنها معرّضة في حال شنّت هجومًا على إيران لوابل من الصواريخ الدقيقة وضربات من جبهات متعددة قد تفوق قدرة دفاعاتها.
وإيران رغم تطويرها قدرات هجومية عبر الصواريخ والوكلاء، تدرك أن أي هجوم مباشر منها أو من حلفائها الكبار (كخطوة انتقامية كبرى) يمكن أن يستجلب رداً إسرائيلياً مدمراً وربما بدعم أميركي لا يُبقي ولا يذر. هذا التوازن الخطِر يحفظ قدرًا من الاستقرار السلبي – حيث لا سلام حقيقي ولا حرب شاملة – لكنه ليس مستدامًا على المدى الطويل.
إن تعدد ساحات الاحتكاك يرفع احتمالات الاشتعال العرضي أو سوء الحسابات. فمثلاً، قد تؤدي عملية اغتيال جريئة في طهران إلى ضغط داخلي على القيادة الإيرانية للرد بقوة ضد أهداف إسرائيلية، مما قد يجرّ ردًا إسرائيليًا أوسع وهكذا في حلقة تصعيدية. وبالمثل، فإن هجومًا سيبرانيًا غير منضبط قد يتسبب في كارثة إنسانية (كشل شبكة كهرباء أو منشأة نووية) بما يستدعي ردًا عسكريًا تقليديًا. حتى على جبهات الوكلاء، فإن أي مواجهة كبيرة بين إسرائيل وحزب الله – في ظل الترسانة الضخمة لدى الأخير – قد تتطور بسرعة إلى حرب إقليمية تشمل إيران مباشرةً. لذا يحذر الخبراء من أن خطر اندلاع مواجهة إقليمية شاملة بين إيران وإسرائيل لم يكن يومًا أكبر مما هو عليه الآن في ظل هذا التشابك.
بناءً على ذلك، تبرز توصيات إستراتيجية لصنّاع القرار لاحتواء التصعيد وإدارة هذا الصراع المزمن بعقلانية:
- إحياء المسار الدبلوماسي النووي: يبقى الاتفاق النووي الشامل أو البديل عنه الخيار الأفضل لكبح اندفاع البرنامج الإيراني ومنع سيناريوهات الضربة العسكرية. على القوى الكبرى تكثيف جهود الوساطة (عبر عمان وأطراف أوروبية) لإبرام ترتيب مرحلي يقلّل مستويات التخصيب مقابل رفع جزئي للعقوبات، بما يطيل أمد “زمن الاختراق النووي” ويخفف المخاوف الإسرائيلية.
- بناء إجراءات لخفض التصعيد الإقليمي: يتطلب الأمر تفاهمات – ولو غير مباشرة – بين طهران وتل أبيب حول بعض قواعد اللعبة في الساحات المشتعلة. مثلا، يمكن برعاية أطراف دولية الاتفاق على عدم استهداف الدبلوماسيين أو المدنيين خارج مسرح الصراع (لمنع حوادث كمحاولة اغتيال سياح في بلد ثالث). ويمكن البحث في تفاهم ضمني حول عدم تحويل سوريا لساحة حرب مفتوحة – أي استمرار ضرب الأهداف الإيرانية بشكل مدروس مقابل امتناع إيران عن الرد عبر وكلائها من سوريا – تفاديًا لتدهور أوسع.
- تعزيز قنوات الاتصال السرية: ينبغي تطوير قنوات الاتصال الخلفية القائمة وتأسيس آليات اتصال طارئة. قد يشمل ذلك إنشاء خط ساخن عبر طرف ثالث (كوسيط أممي أو قوة كبرى) يمكن تفعيله عند وقوع حوادث خطيرة (مثلاً إسقاط طائرة أو صاروخ بالخطأ) لتبادل الرسائل العاجلة وتوضيح النوايا ومنع سوء الفهم.
- إشراك اللاعبين الإقليميين في الحوار: يمكن لدول لديها علاقات جيدة مع الطرفين – كتركيا وقطر وربما عُمان – إطلاق مبادرات حوار إقليمية حول الأمن الخليجي وحرية الملاحة وعدم التدخل، بهدف بناء ثقة تدريجية تخفف العداء. فقد أثبتت تجربة إعادة العلاقات بين إيران والسعودية برعاية صينية أن الانخراط الدبلوماسي ممكن ومثمر لخفض التوتر الإقليمي، ولو جزئيًا.
- الحفاظ على التوازن الدولي: على الرغم من الاستقطاب العالمي الحالي، ينبغي للقوى العظمى تجنب تحويل إيران وإسرائيل إلى ساحة صراع بالوكالة بينها. وبدلاً من ذلك، توظف نفوذها للضغط نحو الحلول الوسط. فدعم روسيا والصين للحوار مع إيران وتطمينات أميركا لإسرائيل بأمنها يمكن أن يخلق ظروفًا مواتية لاتفاقات محدودة تقلّل احتمالات الانفجار.
في الختام، يبدو ميزان القوى الحالي دقيقًا وحذرًا، ويحاول كل طرف تجنب دفعه إلى اختلال قاتل. لكن استمرار التصعيد المستمر على مختلف المستويات دون أفق تسوية يظل وصفة لاضطراب إقليمي خطير. إن إدارة هذا التصعيد – لا سيما عبر أدوات الدبلوماسية والردع الذكي – هي الخيار الأكثر واقعية لمنع انفجار شامل قد لا تُحمد عقباه على الشرق الأوسط برمته.
فلا إيران ولا إسرائيل – ولا القوى العظمى من خلفهما – لديها مصلحة في اندلاع حرب مفتوحة، مما يفتح نافذة للأمل بأن تُبذل جهود جادّة لتحويل هذا الصراع من حالة المواجهة المستمرة إلى حالة التعايش المدارة على الأقل، وصولاً ربما في المستقبل البعيد إلى تسويات أكثر شمولاً تعزز الأمن الجماعي لجميع شعوب المنطقة.